القى سعادة الاستاذ ابراهيم دبدوب كلمة في الجلسة الافتتاحية للملتقى الرابع عشر لمجتمع الاعمال العربي تحت عنوان حماية الدول العربية من آثار الازمات المالية والاقتصادية العالمية المتنامية.
فيما يلي النص الكامل لكلمة السيد دبدوب: يشرفني أن أشارك في هذا الملتقى المميز لمجتمع الأعمال العربي لمناقشة التحديات والفرص الماثلة أمامنا في ضوء التحول الجذري الذي يمر فيه العالم العربي، فيما يعاني الاقتصاد العالمي من مرحلة حرجة على اثر الأزمات المالية والاقتصادية المتتالية والتي تختبر قدرات الدول المتقدمة الى اقصى حد.
وتبرز هنا اهمية حماية الدول العربية من تلك الأزمات لا سيما بعد أن بينت الاحتجاجات والثورات الشبابية الأخيرة في انحاء العالم العربي تداعيات الفشل في ترجمة النمو الاقتصادي إلى تنمية حقيقية ترفع من مستوى المعيشة لجميع أفراد مجتمعاتنا.
العالم يمر بمرحلة اقتصادية حرجة
وحول صورة الاقتصاد العالمي قال دبدوب انها مازالت قاتمة. فالقلق المتزايد في الأسواق المالية، والشلل السياسي الذي يصيب قادة أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، والسياسات المالية والاقتصادية الخاطئة، كلها عوامل كفيلة بطرح علامات استفهام كبيرة حول آفاق الاقتصاد العالمي. صحيح أن الاقتصاد العالمي سيتباطأ هذا العام، لكن الأعوام اللاحقة قد تكون أصعب نظرا إلى المخاطر التي تثقل الآفاق الاقتصادية في الأجل القصير، والنابعة من ثلاثة محاذير رئيسية: أزمة الديون السيادية في أوروبا، وتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، وأخيرا توجهات الأسواق النفطية.
وبقدر ما يبدو وضع الاقتصاد العالمي مليئا بالتحديات والضبابية، من الواضح أن آثارها على الدول العربية سوف تكون سلبية إن كان من حيث ضعف صادرات دول أفريقيا الشمالية إلى الأسواق الأوروبية أو الفرص الاستثمارية المجدية في البلدان المتقدمة. لذا على الدول العربية ان تحمي اقتصاداتها قدر المستطاع وتركز على معالجة التحديات التي نواجهها، لا سيما البطالة والفقر والاختلالات الاجتماعية لنتفادى الهزات الاجتماعية والسياسية.
الربيع العربي زاد من التحديات الاقتصادية
واضاف السيد دبدوب ان هناك تحديات كبيرة ماثلة أمام العالم العربي اليوم. فالتحركات الشعبية التي أشعلتها العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي سادت طويلا، ستنتج بدورها بيئة اجتماعية واقتصادية جديدة. وبقدر ما تحمل آمالا جديدة لشعوب المنطقة، فإنها فرضت في الوقت نفسه تبعات ثقيلة على الاقتصادات العربية تجلت بأشكال عدة، أبرزها تدهور البيئة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة والحركة التجارية البينية، إلى جانب انكماش عائدات السياحة وغيرها من القطاعات الحيوية بالنسبة للدول التي شهدت اضطرابات سياسية واجتماعية. لكن الأهم من ذلك، أن ميزانيات هذه الدول قد تضررت بشكل حاد، إن من حيث انخفاض الإيرادات المالية أو من حيث ارتفاع تكلفة الدين عليها، ما من شأنه أن يكبل إمكاناتها لتوليد نمو مستدام في المستقبل.
واشار دبدوب الى إن التحدي الرئيسي الذي يواجه اقتصاداتنا اليوم يتمثل بالبطالة والفقر اللذين ينهشان بمجتمعاتنا. وكما كانت هاتين الآفتين هما السبب في اشتعال التحركات الشعبية الواسعة، فالحل يبدأ أيضا بهما. أي، باختصار، لن تنجح الدول العربية من تجاوز محنتها الحالية من دون توفير فرص عمل للشباب الذي يمثلون أكثر من نصف التكوين السكاني لمجتمعاتنا، ومن دون ردم الهوة الاجتماعية الشاسعة بين الفئات الاجتماعية. وهذا لن يتحقق من دون الاستثمار في المشاريع التنموية التي مازالت المنطقة تفتقرها عموما، والتي من شأنها أن تحفز النمو وتعيد إحياء النشاط الاقتصادي.
لكن نجاح هذه التغيرات في تحقيق تطلعات الشعوب العربية مرهون بنجاح الاقتصادات العربية في تجاوز مرحلة التحول التي تمر بها حاليا إلى اقتصادات منتجة ذات نمو مستدام. وذلك لا يقوم على نبذ الإصلاحات، بل على تصحيح مسارها.
الاصلاح الداخلي: الحل يبدأ بتجديد مسيرة الاصلاح الاقتصادي
وحول الاصلاح الداخلي قال دبدوب ان الحل يبدأ بتجديد مسيرة الاصلاح الاقتصادي وافساح المجال امام القطاع الخاص للعب دور أكبر في المستقبل. خلال العقدين الماضيين من الزمن، انضمت العديد من الدول العربية إلى مسيرة الإصلاح، ووضعت سياسات هادفة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحرير التبادلات التجارية وتفعيل الخصخصة وغيرها من السياسات الإصلاحية. لكن هذه السياسات فشلت في تحقيق غاياتها، بل جاءت بمعظمها غير فاعلة، وأحيانا كانت لخدمة فئة من المجتمع على حساب الشريحة الكبرى.
وركز السيد دبدوب على الإصلاحات الهيكلية التي من شأنها تعزيز التنمية والنمو، والاستثمار في البنى التحتية والتعليم وتأهيل القوى العاملة في المجالات المعرفية، مع الحفاظ على أساسيات مالية صلبة. وقال ان بإمكاننا أن نغير الواقع نحو الأفضل من خلال التوجهات التالية:
أولا، يجب أن نطور ونفعّل دور القطاع الخاص. فهيمنة القطاع العام لعقود طويلة مضت لم يثمر الكثير، بل خنق الإبداع وخفض الأداء والإنتاجية.
ثانيا، علينا مواكبة تيار العولمة إن كان من ناحية التكنولوجيا والاتصالات والمعلوماتية والمعرفة الاجتماعية، أو حرية حركة الأفراد والسلع والخدمات ورأس المال.
ثالثا، التعليم: إن برامج تعليمنا أيها السادة متخلفة وهي تعتمد على الكم لا الكيف. علينا إذاً إصلاح أنظمتنا ومناهجنا التعليمية لخلق طاقات بشرية قادرة على تبني فكر مستقل والإبداع وابتكار الحلول.
وأخيرا، على مجتمع الأعمال أن يطور من نفسه ويرتقي بمؤسساته وأن يخلق كوادر مهنية محترفة، ويطبق معايير الحوكمة الصحيحة.
خطة مارشال عربية
واشار دبدوب الى ان الاصلاح الاقتصادي يجب ان يتزامن مع مشروع أخذ حيزا من النقاش أكبر بكثير مما تحقق منه على أرض الواقع، وهو مشروع التكامل الاقتصادي بين الدول العربية. لذلك يحتاج العالم العربي الآن أكثر من أي وقت مضى إلى خطة عربية على نسق “خطة مارشال” لتحقيق النمو الاقتصادي المأمول. فالاقتصادات العربية بحاجة حاليا لهكذا دعم لكي تمضي في مسيرتها الإصلاحية ومن شان خطة مارشال عربية ان تحفز الدول على الاصلاح.
وقال تتوفر للعالم العربي الروافد المالية والموارد الطبيعية اللازمة والكفيلة بدعم سبل التنمية والنمو. وبشكل خاص، تمتلك الدول المصدرة للنفط ثروات وفوائض مالية ضخمة. وفي ظل أسعار النفط المرتفعة، سوف تستمر هذه الدول في تحقيق المزيد من الفوائض وقد حان الوقت لتوجيه بعض من استثماراتها إلى العالم العربي. وفي تقديري أن حجم الفوائض المالية العربية لا تقل بأي تقدير عن 1500 مليار دولار أميركي.
وهنا تبرز أهمية وضع خطة مارشال عربية تكون بمثابة آلية لتمويل المشاريع التنموية من جهة، وتمويل العجوزات المالية التي تعرقل خطط النمو في المستقبل من جهة ثانية، أي آلية تجمع عمل صندوق النقد الدولي في تمويل العجوزات المالية من ناحية، وعمل البنك الدولي في تمويل المشاريع التنموية من ناحية أخرى.
لقد استطاعت خطة مارشال أن تعيد الحياة إلى أوصال اقتصادات أوروبا المنهكة بعد الحرب العالمية لتصبح أوروبا بعد ذلك شريكاً فاعلاً في معاملاتها ونشاطاتها التجارية والاستثمارية. فلماذا لا نسعى لطرح خطة مارشال عربية شاملة تهدف إلى تقديم يد العون إلى البلدان العربية التي تحتاج إلى موارد مالية متوفرة لدى الدول النفطية ذات الفوائض المالية. ويمكن لدول الخليج العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، أن تلعب دورها الطليعي في تنمية الدول العربية عبر قيادة هذه الخطة وتأمين الموارد المالية والتقنية اللازمة لها، على أن تكون هذه المساعدات بشروط قد تشبه اشتراطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فالمقصود هنا ليس مساعدة الزعماء على شراء الوقت، بل تحقيق نهضة اقتصادية تنموية كبيرة.
واختتم دبدوب كلمته بالقول: لقد شكلت خطة مارشال الشهيرة نقطة تحول في تاريخ أوروبا والغرب عموما. ويمكن لخططتنا العربية أن تستفيد من هذه التجربة الأميركية-الأوروبية الناجحة. ولكون الأزمة التي نمر بها هي عربية بالدرجة الأولى، فالحل أيضا يجب أن يكون عربيا أيضا، ومفتاحه في يد دول الخليج. فالآفاق مازالت إيجابية والوقت الراهن هو الأنسب للاستثمار في المنطقة العربية، لأن الأهم من العوائد المتوقعة، هو أننا نستثمر في مستقبل أبنائنا.